الحرب والسعي إلى توسيعها

وال-واحدة من الطرق البسيطة لمعرفة حقيقة الانقسام في لبنان، هي في الإجابة على سؤال مباشر: من ابتهج ومن غضب عند استشهاد القائد الأممي السيد حسن نصرالله؟
دعونا من التقية التي تشكل أسلوباً مشتركاً عند اللبنانيين في حديثهم عن القضايا الخلافية. ودعونا من الجانب الإنساني الموجود حتماً في قلوب البسطاء من الناس. ولنذهب إلى من يملك التأثير على مجريات الأمور، وإلى العقل الذي يتحكّم بأداء المرجعيات.
كل خصوم المقاومة في لبنان والمنطقة لن يكونوا غاضبين إن هي تعرّضت لهزيمة على يد إسرائيل. أصلاً، جرّب كل هؤلاء حظهم معها، وبأساليب مختلفة، وفشلوا في تحقيق مرادهم. لكنهم تجمّعوا كلهم اليوم، حيث تُشن هذه الحرب من قبل تحالف وثيق، (وليس تقاطع مصالح)، بين كل الداعين إلى نزع سلاح المقاومة، وآلة القتل الإسرائيلية بقيادة العدو الأميركي. وهدف هؤلاء ليس نزع السلاح فقط، بل نزع الروح من حامليه إن أمكن لهم ذلك.
ولأن المعركة بهذا الوضوح، لم يعد بالإمكان الحديث عن الولايات المتحدة إلا بوصفها عدواً. وعندما نقول العدو الأميركي، فلأننا نعي ما تقوم به من جهة، ولأننا لن نقبل بعد اليوم بتصنيفها صديقة للبنان. ومن يريد التعامل معها كأمر واقع، فهو حر في قناعاته وخياراته. لكنه لن يتمكن من حجب الحقيقة الواضحة حول شراكتها الكاملة في الجريمة المفتوحة، من غزة حيث تدمر الإبادة كل أدوات حياة الفلسطينيين هناك، إلى الدور المباشر، السياسي والعسكري والأمني الذي تقوم به الولايات المتحدة في لبنان، حيث تنخرط كل أطقمها العسكرية والأمنية والدبلوماسية في حرب تتسبب بسقوط الدماء بين المقاومين والمدنيين. ومن يريد تفسير الحديث المباشر عن الدور الأميركي في هذه الحرب بأنه تحريض على المصالح الأميركية (كما فعل مارسيل غانم)، فليفعل ما يريد وليقل ما يريد. لكن عليه أن يسأل أولاً عن الدور الذي تقوم به السفارة الأميركية في بيروت بكل أقسامها وفرقها، وأن لا يتجاهل هؤلاء ما يعرفونه شخصياً عن تفاصيل التدخل الأميركي في كل شاردة وواردة في هذه الدولة ومؤسساتها، وفي مقدّمها المؤسسات العسكرية والأمنية.
كما أن من يريد تسهيل الأفعال الأميركية في لبنان، أو يوفّر التغطية لها، ويتستر عليها، فهو يتحول مع الوقت إلى شريك في هذه الجريمة. والمسألة، هنا، ليست مجرد إبداء رأي. نحن نتحدث عن حرب دائرة، وعن دماء تسيل، وعن قتلة كاشفي الوجوه. ومثلما نقبل نحن بتحمل ثمن انخراطنا في المقاومة الشاملة للعدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان وعلى فلسطين، فعلى هؤلاء تحمل مسؤولية أفعالهم أيضاً. وطالما يميل الجميع إلى التحدث بصراحة وشفافية، فلا بأس بأن يقول كل منا ما لديه من دون مواربة أو تحايل، لأن المعركة قائمة وستكون قاسية، وكلنا يعرف حماسة بعض «الصبيان» للقيام بأعمال متهورة في لحظة التقدير الخاطئ. وإذا كان هؤلاء يعتقدون بأنهم يعملون في الظلام، فإن من يشغّلهم يعرف أنه مكشوف الوجه والاسم وأدوات العمل طوال الوقت.
وإذا كان العدو قد حقّق نجاحات كبيرة في الجانب الأمني، فهو قام بذلك مستنداً إلى دعم لوجستي وتقني ما زال مفتوحاً، تقدّمه أجهزة الاستخبارات الغربية وبعض الاستخبارات العربية في لبنان. وهو دعم كان ولا يزال موجوداً حتى اللحظة. ولم يتوقف حتى خلال شن الغارات على المدن والقرى والبلدات، علماً أنه يوجد الآن في لبنان عشرات العملاء الذين أُرسلوا في مهام تجسسية على عجل، ليكونوا ضمن «العيون خلال الحرب»، وهي فرق، تعمد جيوش كثيرة في العالم إلى الاستعانة بها، خصوصاً في الساحات التي يكون لهذه الدولة النفوذ القوي الذي يسمح باستخدام مطاراتها ومرافقها ومعابرها. فكيف، وسفارة مثل السفارة الأميركية، قادرة على إدخال وإخراج من تريد من لبنان حتى من دون طلب الإذن أو المرافقة، وخطها الجوي مع قواعد قبرص مفتوح ليلَ نهارَ، ولم يحصل سابقاً أن أخذت إذناً أو أعطت علماً بأنها تقوم برحلاتها الجوية، وحتى الرحلات البحرية أيضاً.
لقد شكّلت عملية اغتيال القائد الأممي علامة فارقة في كل الحرب الجارية. وعندما يشار إليه باعتباره الشهيد الأسمى والأغلى، فهذا لا يخص موقعه الشخصي في قلوب وعقول كل من يعتبر نفسها بشرياً فيه لحم ودم وعقل وقلب، بل لأنه القائد الذي عمل كل طغاة العالم، بقيادة الولايات المتحدة، على التخطيط للنيل منه. وكل المؤشرات الميدانية والحسية تعزّز كل الشكوك في تورط أميركا في أكبر عملية اغتيال نفّذها الذيل الإسرائيلي في تاريخ الصراع مع المقاومة.
قتل السيد الشهيد لم يكن بسبب منصبه كأمين عام على ما نعرفه عن نظرائه في أحزاب أخرى. والاختلاف لا يقف فقط عند تمتّعه بميزات قيادية خاصة، بل لأن دوره كان يتجاوز حدود حزب الله نفسه. فهو القائد الحقيقي والفعلي لقوى محور المقاومة، وكان يجلس على رأس طاولة القرار في المحور. لم تعرف إيران الخميني شريكاً لها في صناعة القرار مثل السيد الشهيد. وهو ما عرفه عليه كل من تعاقب على الحكم في إيران نفسها، وكل صاحب قرار في ساحات العراق وسوريا واليمن وفلسطين ولبنان. وهو كان مركز الثقل الرئيسي بالنسبة إلى قوى وجمهور المحور، وهو ما جعله هدفاً دائماً للقتل من قبل جهات كثيرة. وهذا ما حفّز الولايات المتحدة لتكون شريكاً أساسياً مع إسرائيل في التفكير والتخطيط والإعداد وصولاً إلى توفير أدوات الاغتيال. وفيما حالت الإجراءات الخاصة بأمنه دون تنفيذ الجريمة لوقت طويل، فإن الأعداء، كانوا أيضاً يتهيّبون خطوة بهذا الحجم. لكننا اليوم نمرّ في لحظة جنون عالمية، حيث يحتل متعصبون ومتهورون مكاتب القرار الأميركي والإسرائيلي، وهؤلاء يتعاملون مع الاغتيال السياسي كعنصر مركزي في عقيدتهم القتالية. وهو ما دفع واشنطن وتل أبيب إلى بذل جهد استخباراتي هائل مكّن العدو من الوصول إليه. وقد اختار الأعداء لحظة التنفيذ في خضمّ حرب كبرى، كي يستفيدوا من هامش الاحتياط لأي رد متوقّع.
ومع ذلك، فإن قادة العدو، سياسيين وأمنيين، يعرفون أن الانتقام لدماء القائد الشهيد سيكون في جانب منه مرتبطاً بمجريات الحرب القائمة. لكنّ هناك جانباً خاصاً سيتعرف إليه العالم في اللحظة التي تتمكن فيها مجموعات خاصة من تحقيق ما يجعل كل من فكّر وخطّط وشارك ونفّذ الجريمة، سواء أكان دولة أم جيشاً أم قوة أم أشخاصاً، في دائرة الاستهداف المباشر. ومن لم يتعرّف بعد إلى إرث الشهيد الكبير، فسيتاح له التعرّف إلى جوانب لم يألفها منذ عقود طويلة. حيث إن الانتقام المباشر ليس مهمة محصورة في تنظيم بعينه، بل هي مهمة تخص آخرين، وحيث لا يحتسب كثيرون.

من ابتهجوا باغتيال القائد الأممي هم من شاركوا لعقود في مطاردته، لكنهم سيتعرّفون إلى إرثه ليس في هذه الحرب فقط، بل في مسيرة عالمية تنتقم لأغلى الشهداء

مشكلة أعدائنا في العالم أنهم لا يقيسون الأمر بطريقة تتناسب وطبيعة المقاومة نفسها. يعتقد الطغاة بأن القتل وسيلة نافعة للردع. ولم يتعلموا من دروس المقاومة ضد إسرائيل منذ 75 عاماً. وحتى في هذه الحرب، هم لا يعرفون معنى الانخراط في هذه المعركة. ويقيسون الأمر على أساس تقديرات تخص بعض الأوساط التي تستخدم عبارات بالية مثل الواقعية والعقلانية والحسابات المباشرة. فيعتقد الغرب، وليس إسرائيل فقط، بأن قدرة المقاومة على التحمل تبقى رهن ما قد تخسره. واستناداً إلى فلسفة التدمير، بحيث يشعر كل من يقاوم بأنه سيخسر كل ما لديه. يفترض العدو الأميركي (والإسرائيلي معه) أن الجميع في لبنان لن يقاتلوا إذا كان لديهم ما يخسرونه. ولذلك يركّزون اليوم في حملتهم الدعائية، على تضخيم نتائج الحرب، ليس بقصد عرض العضلات فقط، بل في محاولة لدفع الناس إلى الشعور بأنهم يخسرون الكثير جراء خيار المقاومة. لكن، كما في كل مرة، سرعان ما يكتشف هؤلاء بأن الناس لديهم الكثير ليخسروه، لكنهم مستعدون فعلاً، لا قولاً، لدفع الأثمان بأغلى ما يملكونه. وهم يعرفون أنه في لبنان، وخلال العقدين الماضيين، تطور الواقع المادي للمقاومة، جسماً وبيئة ومجتمعاً، إلى مستويات عالية جداً، وهي تملك الكثير الكثير من البشر والإمكانات والطاقات وأدوات الحياة والإنتاج. ولكن ذلك لم يؤثّر على قرارها، سواء المتعلق بالإسناد الناري للمقاومة في غزة، أو التصدي للعدوان الواسع على لبنان. وها هي المقاومة تخوض معركة تدفع فيها الأثمان الكبيرة. وهي تفعل ذلك من دون تردّد أو خوف. ويسقط منها عشرات الشهداء في المواجهات اليومية عند الحدود، ويُقتل من ناسها المئات في البيوت أو أماكن النزوح. ومع ذلك، فالعدو لا يريد أن يتعلم الدرس. ولن يكون بمقدور العدوين الأميركي والإسرائيلي فهم الأمر على حقيقته. فكيف سيتعاملان مع حقيقة أن بضعة آلاف من المقاومين فقط، هم من يديرون المعركة اليوم، وأن عشرات الألوف لم ينخرطوا بعد. ولدى هؤلاء الكثير من المهام لحظة اتخاذ القرار.
إن فهمنا العميق لمعنى هذه الحرب يسهّل علينا تقدير كلفة الصمود والمقاومة والتحدي، ليس لكي أن نختار بين المقاومة والاستسلام، بل لنعرف بأننا أمام حرب تتطلب الكثير من التضحيات، مثلما تحتاج إلى الكثير من العقل والشجاعة.


إبراهيم الأمين
جريدة الاخبار